فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال السمرقندي:

قوله: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة، وهم بنو قريظة والنضير، وكانوا ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يدعون الأوس والخزرج إلى الإيمان به، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم آمن به الأوس والخزرج وكفر اليهود وجحدوا، فنزلت هذه الآية: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كانت اليهود إذا جاءهم حليف منهم الذي قد أسلم وسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر فتقول له: إنه نبي صادق فاتبعه، وتكتم ذلك عن السفلة مخافة أن تذهب منافعه، فنزلت هذه الآية: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}.
وقال قتادة: في هذه الآية دليل على أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعًا إليه، ومن نهى عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه.
ويقال: تنزلت في شأن القصاص. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الهمزة في: {أتأمرون الناس بالبر} للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم، وأما البر فهو اسم جامع لأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما، ومنه عمل مبرور، أي قد رضيه الله تعالى وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال بر في يمينه أي صدق ولم يحنث، ويقال: صدقت وبررت، وقال تعالى: {ولكن البر من اتقى} [البقرة: 189] فأخبر أن البر جامع للتقوى، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم ورغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول، إذ المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة، وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام.
واختلفوا في المراد بالبر في هذا الموضع على وجوه:
أحدها: وهو قول السدي أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وينهونهم عن معصية الله، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية.
وثانيها: قول ابن جريج أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما.
وثالثها: أنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: هو صادق فيما يقول وأمره حق فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم، ورابعها: أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرون مشركي العرب أن رسولًا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يرغبونهم باتباعه فلما بعث الله محمدًا حسدوه وكفروا به، فبكتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه، وهذا اختيار أبي مسلم، وخامسها: وهو قول الزجاج أنهم كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة، وكانوا يشحون بها لأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت، وسادسها: لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباع محمد صلى الله عليه وسلم في الظاهر، ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه، وسابعًا: أن اليهود كانوا يأمرون غيرهم باتباع التوراة ثم إنهم خالفوه لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم ما آمنوا به، أما قوله: {وتنسون أنفسكم} فالنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والناسي غير مكلف ومن لا يكون مكلفًا لا يجوز أن يذمه الله تعالى على ما صدر منه، فالمراد بقوله: {وتنسون أنفسكم} أنكم تغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع، أما قوله: {وأنتم تتلون الكتاب} فمعناه تقرأون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمخاطب بقوله: {أتأمرون} جميع بني إسرائيل الذين خوطبوا من قبل، فيقتضي أن هذه الحالة ثابتة لجميعهم أي أن كل واحد منهم تجده يصرح بأوامر دينهم ويشيعها بين الناس ولا يمتثلها هو في نفسه، ويجوز أن يكون المقصود بهذا الخطاب فريقًا منهم فإن الخطاب الموجه للجماعات والقبائل يأخذ كل فريق ما هو حظه من ذلك الخطاب، فيكون المقصود أحبارهم وعلماءهم وهم أخص بالأمر بالبر، فعلى الوجه الأول يكون المراد بالناس إما المشركين من العرب فإن اليهود كانوا يذكرون لهم ما جاء به دينهم والعرب كانوا يحفلون بسماع أقوالهم كما قال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} [البقرة: 89] وإما أن يكون المراد من الناس مَن عدا الآمر كما تقول أفعل كما يفعل الناس وكقوله: {إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] أي أيأمر الواحد غيره وينسى نفسه، وعلى الوجه الثاني يكون المراد بالناس العامة من أمة اليهود أي كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ ولا يطلبون نجاة أنفسهم.
والاستفهام هنا للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي فاستعمل في التوبيخ مجازًا بقرينة المقام وهو مجاز مرسل لأن التوبيخ يلازم الاستفهام لأن من يأتي ما يستحق التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له ويتوجهون إليه بالسؤال فينتقل من السؤال إلى التوبيخ ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إراد الخير للغير وإهمال النفس منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها، وليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع بل في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريبًا غير مألوف من العقلاء فإذا استعمل الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازًا مرسلًا ظاهر وإذا استعمل في لازمين يتولد أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضًا مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب تعدد العلاقة ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك وأيًّا ما كان فهو مجاز مرسل على ما اختاره السيد في حاشية المطول في باب الإنشاء علاقته اللزوم وقد تردد في تعيين علاقته التفتازاني وقال: إنه مما لم يحم أحد حوله.
والبر بكسر الباء الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة والمعاملة، وفعله في الغالب من باب علم إلا البر في اليمن فقد جاء من باب علم وباب ضرب، ومن الأقوال المأثورة البر ثلاثة: بر في عبادة الله وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة الأجانب، وذلك تبع للوفاء بسعة الإحسان في حقوق هذه الجوانب الثلاثة.
والنسيان ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل السهو الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب الأساس مجازًا وهو التحقيق وهو كثير في القرآن.
والنسيان هنا مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما.
قيل في قوله تعالى: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5] أي وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر وفي هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها ولأن العادة تنسيه حاله.
ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس فيكون البر راجعًا إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها.
وجملة: {وتنسون أنفسكم} يجوز أن تكون حالًا من ضمير {تأمرون} أو يكون محل التوبيخ والتعجب هو أمر الناس بالبر بقيد كونه في حال نسيان، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على {تأمرون} وتكون هي المقصودة من التوبيخ والتعجيب ويجعل قوله: {أتأمرون الناس} تمهيدًا لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين.
وبهذا تعلم أنه لا يتوهم قصد النهي عن مضمون كلا الجملتين إذ القصد هو التوبيخ على اتصاف بحالة فظيعة ليست من شيم الناصحين لا قصد تحريم فلا تقع في حيرة من تحير في وجه النهي عن ذلك ولا في وهم من وهم فقال: إن الآية دالة على أن العاصي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر كما نقل عنهم الفخر في التفسير فإنه ليس المقصود نهي ولا تحريم وإنما المقصود تفظيع الحالة ويدل لذلك أنه قال في تذييلها {أفلا تعقلون} ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه.
والأنفس جمع نفس بسكون الفاء وهي مجموع ذات الإنسان من الهيكل والروح كما هنا وباعتبار هذا التركيب الذي في الذات اتسع إطلاق النفس في كلام العرب تارة على جميع الذات كما في التوكيد نحو جاء فلان نفسه وقوله: {النفس بالنفس} [المائدة: 45] وقوله: {تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85] وتارة على البعض كقول القائل أنكرت نفسي وقوله: {وتنسون أنفسكم} وعلى الإحساس الباطني كقوله: {تعلم ما في نفسي} [المائدة: 116] أي ضميري.
وتطلق على الروح الذي به الإدراك {إن النفس لأمارة بالسوء} [يوسف: 53] وسيأتي لهذا زيادة إيضاح عند قوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس} في سورة النحل (111).
وقوله: {وأنتم تتلون الكتاب} جملة حالية قيد بها التوبيخ والتعجيب لأن نسيان أنفسهم يكون أغرب وأفظع إذا كان معهم أمران يقلعانه، وهما أمر الناس بالبر، فإن شأن الأمر بالبر أن يذكر الآمر حاجة نفسه إليه إذا قدر أنه في غفلة عن نفسه، وتلاوة الكتاب أي التوراة يمرون فيها على الأوامر والنواهي من شأنه أن تذكرهم مخالفة حالهم لما يتلونه. اهـ.
قوله تعالى: {أفلا تعقلون}.

.قال الفخر:

وأما قوله: {أفلا تعقلون} فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ونظيره قوله تعالى: {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} [الأنبياء: 67] وسبب التعجب وجوه:
الأول: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال: {أفلا تعقلون}.
الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببًا لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون أنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية فيصير هذا داعيًا لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال: {أفلا تعقلون}.
الثالث: أن من وعظ فلابد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذًا في القلوب.
والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرًا في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرًا في القلوب.
فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقلهم استفهامًا مستعملًا في الإنكار والتوبيخ نزلوا منزلة من انتفى تعقله فأُنكر عليهم ذلك، ووجه المشابهة بين حالهم وحال من لا يعقلون أن من يستمر به التغفل عن نفسه وإهمال التفكر في صلاحها مع مصاحبة شيئين يذكرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل.
وفعل {تعقلون} منزل منزلة اللازم أو هو لازم.
وفي هذا نداء على كمال غفلتهم واضطراب حالهم.
وكون هذا أمرًا قبيحًا فظيعًا من أحوال البشر مما لا يشك فيه عاقل. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعضهم: ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر واحتجوا بالآية والمعقول، أما الآية فقوله: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} ولا شك أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم، وقال أيضًا: {لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 23].
وأما المعقول فهو أنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن ينكر عليها في أثناء الزنا على كشفها عن وجهها، ومعلوم أن ذلك مستنكر.
والجواب: أن المكلف مأمور بشيئين:
أحدهما: ترك المعصية.
والثاني: منع الغير عن فعل المعصية والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر.
أما قوله: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} فهو نهي عن الجمع بينهما والنهي عن الجمع بين الشيئين يصح حمله على وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد هو النهي عن نسيان النفس مطلقًا.
والآخر: أن يكون المراد هو النهي عن ترغيب الناس في البر حال كونه ناسيًا للنفس وعندنا المراد من الآية هو الأول لا الثاني، وعلى هذا التقدير يسقط قول هذا الخصم، وأما المعقول الذي ذكروه فيلزمهم. اهـ.
قال الفخر:
احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن فعل العبد غير مخلوق لله عز وجل فقالوا قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} إنما يصح ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم، فأما إذا كان مخلوقًا فيهم على سبيل الاضطرار فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود: لم لا تبيض؟ لما كان السواد مخلوقًا فيه.
والجواب: أن قدرته لما صلحت للضدين فإن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه.
وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحًا والآخر مرجوحًا والمرجوح ممتنع الوقوع لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر وحينئذ يعود عليكم كل ما أوردتموه علينا.
ثم الجواب الحقيقي عن الكل: أنه {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23]. اهـ.
قال الفخر:
[أ] عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار فقلت: يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم».
[ب] وقال عليه الصلاة والسلام: «إن في النار رجلًا يتأذى أهل النار بريحه فقيل من هو يا رسول الله؟ قال: عالم لا ينتفع بعلمه».
[ج] وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه».
[د] وعن الشعبي: يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من النار فيقولون: لم دخلتم النار ونحن إنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله.
كما قيل: من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه.
وقال الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره ** هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا ** كيما يصح به وأنت سقيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدي ** بالرأي منك وينفع التعليم

قيل: عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، وأما من وعظ واتعظ فمحله عند الله عظيم.
روي أن يزيد بن هارون مات وكان واعظًا زاهدًا فرؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأول ما سألني منكر ونكير فقالا: من ربك؟ أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله تعالى كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك؟ وقيل للشبلي عند النزع: قل لا إله إلا الله فقال:
إن بيتًا أنت ساكنه ** غير محتاج إلى السرج